“لقد أنهيتُ اللقاءات، ورحت مع زميلي نستجم قليلا على حافة إحدى الغابات المحيطة بشاطيء بحيرة صغيرة في جنوب (تيرانا) يسمونها "البحيرة الساحرة". وهي ساحرة حقا. مرآة كبيرة عذبة من الماء الرقراق الهاديء، تنعكس على صفحتها الغابة الخضراء، والجبال البنفسجية، والمقاهي الصغيرة المتناثرة على أطرافها. ثمة غناء لم أستطع تحديد مصدره، يوناني النغمات، شرقي الشجى، كان يبلغ مسامعنا مع شدو طائر هنا، وخفقة ماء إثر جذب صياد عجوز لخيط صنارته هناك. سكينة وصفاء بالغان تنتعش فيهما الروح. وأفكر في (ألبانيا) فأحس بها كيانا صغيرا بديعا هشا يستأهل الرأفة والرفق.”
“كان الشلال يهدر بعنف, ومياهه تندفع من الحافة العالية لتهوي على صخور البازلت السوداء في باطن المجرى, على عمق مائة متر. ومن هذا السقوط المروع لآلاف الأطنان من المياه على الصخور الكبيرة الصلبة, كانت تتصاعد سحب كثيفة من رذاذ الماء المتكسّر على الصخور. وفي وسط العشب الغزير بالغابة المحيطة بالشلال فزع غزال وديع أزعجته الضوضاء, فقال ببعض الضيق: (ألا يمكنك أن تكون أهدأ أيها الشلال العظيم?), ودون أن يتريث لحظة, واصل الشلال اندفاعه وهديره ساخرا من رقة الغزال: (هه هه هاه... اسكت أيها المخلوق الهش, وامضغ عشبك في هدوء). لم يُخف الغزال ضيقه من عجرفة الشلال, وهمهم بصوت خافت: (حقا... ما دخل العنف في شيء إلا شانه, وما دخل الرفق في شيء إلا زانه). سمعت سلحفاة عجوز قول الغزال, وأحست أن به معنى جميلا, فسألته: (هلاّ شرحت لي مغزى ما قلته أيها الغزال?) وجاوبها الغزال مقربا فمه من رأسها, هامسا حتى لا يثير غضب الشلال الجامح: (إنه يعيرني بأنني هش وآكل العشب.. لكنه لا يدري أنه بعنفه يأكل نفسه). مدت السلحفاة رقبتها مطلة برأسها خارج الصدفة الكبيرة على ظهرها وهتفت غير مصدقة: (يأكل نفسه?!) تمطى الغزال رافعا رأسه مستنشقا عبير الغابة المنعش, وقال باطمئنان الواثق مما يعرف: (أكيد... إنه يأكل نفسه), ودون أن تسأله السلحفاة, بادر الغزال يشرح للسلحفاة: (هذه حقيقة... الشلالات العنيفة تأكل نفسها. فمياه الشلال وهي تسقط من الحافة العالية باندفاع, تنحت الحافة وتحفر فيها مجرى يزداد عمقا باستمرار, وعلى مر الزمن لا تجد المياه حافة عالية تسقط من فوقها على هيئة شلال, بل تسير في المجرى مشكلة نهرا صغيرا في قاع الجرف العميق). اندهشت السلحفاة من حديث الغزال, وأخذت تراقب الشلال كيف يجعله العنف يأكل نفسه, لم تستطع أن تتبين ذلك بوضوح خلال فترة عمرها الذي وصل إلى مائة سنة, لكنها كانت تخبر أبناءها, وهؤلاء يخبرون أبناءهم, لتمر آلاف السنين, ويتأكدون أن الشلال حقا - بعنفه واندفاعه - يأكل نفسه.”
“أتخيل لحظة جنونك الجميل هذا عندما استيقظت مبكرة على هطول أول الثلوج، وخرجت في الصقيع للإبراق:" مع هطول أول الثلوج أُقبلك ". خمس كلمات تبعثين بها فتكتسح كل نقاط الحراسة التي أحطنا بها قلبينا، كل الحواجز، وتندفع مودتنا إلى منعطف جديد.. أهيم متأملا إياه على المدى غير المرئي”
“الليل هنا لا يكون أبداً حالك الظلمة، كأن مصابيح الشوارع القوية بيضاء تفيض بضوئها على الجليد، وكان الجليد يعكس استضاءته على وجه السماء، فتبدو في عمق الليل كسماء الفجر.. نور خفيف، أبيض رمادي مزرق، يكتنف الوجود، ويوقظني انا من تعوّد على النوم في سواد عميق للظلمة”
“بوشكين مات مقتولا، ودستويفسكي حالت بينه وبين الإعدام لحظة، وتولستوي قضى نحبه كحفنة من عظام على رصيف محطة مهجورة بعد أن زهد زخرف العالم، وتشيخوف نهش الدرن رئتيه، وليرمنتوف ضاع في مبارزة، وجوركي أطلق على نفسه الرصاص في شبابه ليوقف تدمير البؤساء لأنفسهم. أي عنف واجهه صناع الجمال هؤلاء أو وقعوا في براثنه؟! لقد ذهبتُ إلى بيت تشيخوف - وهو الذي يُعتبر أكثر الكُتاب الروس هدوءا ووداعة - ولاحظتُ شيئا غريبا فاتني ملاحظته في المرات السابقة: إن مكتبه كان يواجه الحائط! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة بذلك مزيدا من العزلة عن عنف العالم الصعب، وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها لحظات عصيبة.”
“لقد ذهبتُ إلى بيت تشيخوف - وهو الذي يُعتبر أكثر الكُتاب الروس هدوءاً ووداعة - ولاحظتُ شيئا غريبا فاتتني ملاحظته في المرات السابقة: إن مكتبه كان يواجه الحائط! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة بذلك مزيداً من العزلة عن عنف العالم الصعب، وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها لحظات عصيبة.”
“تحس بدبيب فرح مرهف وسط نسائم المساء المبتردة الشفيفة ,إذن يظل هناك مكان للروح يظل هناك كل هذا التزاحم على الجميل في مواجهة المبتذل ,على الأعلى صعودا عن الأدنى..إذن يبقى شئ .تقول في نفسك ذلك وتفرح بسحر الفن الذي شرّد أقدامك وجعلك تمتلك قلبك ”