“ان علماء الدين شانهم شان العلماء الاخرين، من اهل الاختصاص والمشورة، هادون للشعب عامة لا وكلاء عنه. وشرعية السلطة وقراراتها مرتبطة بممارسة الجماعة ككل لسيادتها وحريتها. وفي هذه الحالة فان الجماعة كاملة، مصدر الوحدة والاتحاد والاتفاق المنتج للقوة والمنعة، وهو معني الحديث الشريف لا تجتمع امتي علي ظلال.”
“الجماعة تتكون من قوى اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة ومتعارضة بالضرورة والا لما كان هناك حاجة لا للسياسة ولا الثقافة. وبقدر ما تستطيع الجماعة ان تجد حلولا للتناقضات التي تختمر في حجرها, تستطيع ان تقيم وحدتها السياسية والثقافية. لكن هذه الحلول ليست متماثلة دائما. فيمكن لوحدة الجماعة ان تستند الى غلبة فئة على الفئات الاخرى. واكثر الاشكال تجسيدا لذلك هو الحكم الاجنبي. وآلية الاستعمار الاجنبي والاستعمار الداخلي واحدة في الحقيقة. الا ان هذه الوحدة المفروضة بالغلبة لا تستطيع ان تقاوم المعارضة الداخلية الى ما لا نهاية, واذا حدث ونجحت في مقاومتها هذه فرضت على الجماعة التقهقر الكامل والفناء. والجماعة التي تستطيع ان تقيم وحدتها على اجماع قومي يعكس قبول الاغلبية للسلطة القائمة وانتمائها الطوعي للقيم الثقافية السائدة هي التي تتحول الى امة, حيث تتوثق وتتعمق روابط الجماعة السياسية والثقافية ويتغلب عامل التضامن والتكاتف الداخلي على عامل التفرقة والانقسام والمواجهة. وجوهر هذا الاجماع ثقافيا كان ام سياسيا هو اشراك الاغلبية في السلطة, اي في صياغة القرارات التي تتعلق بمصلحة الجماعة ككل. ويزول الاجماع بزوال المشاركة وبظهور الاستبعاد الثقافي او السياسي. ونوع هذا الاستبعاد للفئات المكونة للجماعة هو الذي يحدد شكل الاستبعاد القائم.”
“يغطي مفهوم الامة الخلط بين الاجماع القومي الحقيقي وبين الوحدة الاصطناعية المفروضة بالقوة ويجعل من المستحيل فهم تطور الامم والحضارات. وهو مفهوم ايديولوجي. اما المفهوم الاصيل فهو مفهوم الجماعة. ودراسة وتحليل تطور علاقات الجماعة الداخلية من جهة ونشوء الدولة والمجتمع المدني منها من جهة اخرى هي التي تستطيع ان تظهر كيف تتحول الجماعة الى امة او تبقى مجموعة من العصبويات المتجاورة والمتعادية.”
“ان ميل الاقليات لدعم دولة علمانية يلتقي مع رغبة النخبة في ابعاد الجمهور عن السياسة والسلطة. وهو لا يتناقض ابدا مع محافظتها على هويتها الدينية او الاقوامية ولكنه يظهر كضامن لهما. بينما تشعر الاغلبية انها فقدت فيه الكثير. هكذا تتهم الاغلبية الاسلامية الاقليات بالتحالف مع الخارج, او مع السلطة العصرية المحلية بهدف خدمة مصالحها الخاصة. ومن المؤكد ان هذه الصورة العامة تحتاج الى التعديل. فمن الجانب غير المسلم كما من الجانب المسلم هناك الكثير من اصحاب التفكير الحر الذين يشعرون انهم تجاوزوا نهائيا هذه الحساسيات وانهم يتفهمون مواقف البعض اواعتراضات الاخرين ويسلكون تجاههم سلوكا يتسم بالالتزام القومي وبالحرص على الوحدة وتجاوز الاختلاف. ومع ذلك فهذا لا يغير شيئا من حقيقة المشكلة. فالأمة لا يكونها القلة من اصحاب التفكير الحر, ولكنها تتكون من الاغلبية التي ما تزال في وعيها حبيسة "الاحكام المسبقة" المتبادلة في هذا الموضوع, اي انها تميل الى ردود الافعال الطائفية التي تعكس تفوق الالتزام بمصالح الجماعة الدينية او الاقوامية على المصالح الطبقية او القومية.”
“ووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.”
“تفترض الدولة القومية ان للجماعة ذات الثقافة المتميزة روحا خاصة عميقة تموت ان لم تجد تعبيرها السياسي المستقل. وقد كان هذا رد فعل طبيعي ضد الاستبداد الذي اخذت تفرزه الامبراطوريات ذاتها. ونريد هنا ان نميز بين مفهومين للأمة غالبا ما يثير الخلط بينهما التشويش السياسي.المفهوم الاول هو الذي يربط بين الجماعة الثقافية والجنسية المتميزة وبين قيام دولة مرتبطة بها جغرافيا, اما المفهوم الآخر الثاني فيقصد بالدولة القومية الدولة التي تعبر عن مصالح الجماعة او الجماعات التي تتكون منها, فتكون الدولة القومية عندما لا تمثل احتكار فئة اجتماعية للسلطة ضد الفئات الاخرى.”
“لا تكون الجماعة الا بالعصبية اي بشعور التضامن والتلاحم الجماعي تجاه الجماعات الاخرى. وهذا اساس سلوكها على الساحة الدولية كجماعة متميزة ومستقلة ذات ارادة واحدة ومصالح مشتركة. وتكوين الجماعة لا يقوم على زرع روح العصبية ولكنه يقوم على اسس موضوعية سياسية واقتصادية هي التي تولد الشعور بالتضامن والعصبية التي تصبح هي ذاتها درعا نفسيا يصون وحدة الجماعة واستمرارها.”