“ان شعور الانسان الحديث بالعزلة والعجز لا يزال يزداد من جراء الطابع الذي توجده جميع علاقاته الانسانية. لقد فقدت العلاقة العينية للفرد مع الآخر طابعها المباشر والانساني واصبح لهذا الطابع روح الاستغلال وتحويل كل شيء الى آلة. وفي جميع العلاقات الاجتماعية والشخصية نجد ان قوانين السوق هي القاعدة. ومن الواضح ان العلاقة بين المتنافسين يجب ان تقوم على عدم الاكتراث الانساني المتبادل والا فان اي واحد منهم سيصاب بشلل في تحقيق مهامه الاقتصادية - ومن هنا تأتي محاربة كل منهم للآخرين وعدم الامتناع عن التدمير الاقتصادي الفعلي لكل منهم اذا اقتضت الضرورة.”
“اننا نتبين ان عملية نمو الحرية الانسانية لها الطابع الجدلي نفسه الذي لاحظناه في عملية النمو الفردي. فمن جهة, انها عملية نمو القوة والتكامل, السيادة على الطبيعة, نمو قوة العقل الانساني ونمو التضامن مع البشر الآخرين. ولكن من جهة اخرى نجد ان هذا الاصطباغ المتنامي بصبغة فردية يعني تنمية العزلة والقلق ومن ثم نمو الشك فيما يتعلق بدور الانسان في الكون ومعنى حياة الانسان والشعور النامي بعجز الانسان ولا معناه كفرد.”
“ان اطروحة هذا الكتاب هي ان الحرية لها معنيان بالنسبة للانسان الحديث: لقد تحرر من السلطات التقليدية واصبح "فردا", لكنه في الوقت نفسه اصبح منعزلا عاجزا وأداة للاغراض القائمة خارجه وانه اغترب عن نفسه وعن الآخرين. زيادة على ذلك, ان هذه الحالة تقوّض نفسه وتضعفه وترعبه, وتجعله مستعدا للخضوع لانواع جديدة من القيد. اما الحرية الايجابية من جهة اخرى فهي متطابقة مع التحقق الكامل لامكانيات الفرد مع قدرته على ان يحيا بشكل ايجابي وتلقائي. لقد وصلت الحرية الى نقطة حرجة عندها -وهي مدفوعة بمنطق ديناميتها- تهدد بالتغير الى نقيضها. ان مستقبل الديمقراطية انما يتوقف على تحقق النزعة الفردية التي ظلت الهدف الايديولوجي للفكر الحديث منذ عصر النهضة. ان الازمة الحضارية والسياسية في ايامنا هذه لا ترجع الى ان هناك افراطا في النزعة الفردية بل ترجع الى ان ما نعتقد انه نزعة فردية قد اصبح قوقعة فارغة.ان انتصار الحرية ليس ممكنا الا اذا تطورت الديمقراطية الى مجتمع فيه يكون نمو وسعادة الفرد هما هدف وغرض الحضارة, وفيه لا تحتاج الحياة الى تبرير للنجاح او اي شيء آخر, وفيه لا يكون الفرد تابعا ومُستغلا من جانب اية قوة خارجه سواء كانت الدولة او الجهاز الاقتصادي, واخيرا مجتمع لا تكون فيه المثل والضمير التبطّن للمطالب الخارجية, بل تكون حقا مثله وضميره "هو" وتعبر عن الاهداف النابعة من تفردية نفسه.وهذه الاهداف لم تتحقق تماما في اي فترة سابقة من التاريخ الحديث, وهي يجب ان تظل الى حد كبير الاهداف الايديولوجية, وذلك لان الاساس المادي لتطور النزعة الفردية الاصيلة ناقص. لقد خلقت الرأسمالية هذه المقدمة, وحلّت مشكلة الانتاج -من ناحية المبدأ على الأقل- ونحن نستطيع ان نتخيل مستقبلا للوفرة لا يعود فيه النضال من اجل الامتيازات الاقتصادية مدفوعا بالندرة الاقتصادية. ان المشكلة المواجهين بها اليوم هي مشكلة تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية حتى يمكن للانسان -كعضو في مجتمع منظم- ان يصبح سيد تلك القوى ويكف عن ان يكون عبدا لها.”
“بالتطابق مع توقعات الآخرين, بالا يكون الانسان مختلفا, نخرس هذه الشكوك عن ذاتية الانسان ويتم الحصول على امان معين. وعلى اية حال يكون قد دفع الثمن غاليا. ان التنازل عن التلقائية والفردية يفضي الى انجراف الحياة ومن الناحية السيكولوجية ان الانسان الآلي بينما هو حي بيولوجيا هو ميت انفعاليا وذهنيا. بينما هو يقوم بحركات الحياة, فان الحياة تنساب من بين يديه كالرمال. ان الانسان الحديث وراء جبهة من الرضاء والتفاؤل غير سعيد في الاعماق, كحقيقة واقعة, انه على شفا اليأس. انه يتمسك يائسا بفكرة التفردية, انه يريد ان يكون "مختلفا" وليست لديه توصية اكثر من قوله:" ان الامر مختلف". ان الانسان الحديث تواق للحياة, ولكن لما كان انسانا آليا فانه لا يستطيع ان يعيش الحياة بمعنى النشاط التلقائي الذي يتخذه ويحله محل اي نوع من الاضطرابات او الاثارة: اثارة السكر والرياضة والمعايشة العنيفة لاضطرابات الاشخاص الخياليين على شاشة السينما.”
“لقد زاد فقدان النفس من ضرورة التطابق, فقد ترتب على هذا شك عميق بذاتية الانسان. اذا كنت لا شيء, بل ما اعتقد انه مفروض فيّ - فمن "انا" ؟لقد رأينا كيف ان الشك في نفس الانسان بدأ بتحطيم النظام في العصور الوسطى الذي كان للفرد فيه مكان لا يتزعزع بنظام محدد. لقد كانت ذاتية الفرد مشكلة كبرى في الفلسفة الحديثة منذ ديكارت. واليوم نعتقد اننا ما نحن عليه. ومع هذا لا يزال الشك قائماً حول انفسنا او لقد نما بالاحرى. لقد عبر بيراندللو في مسرحياته عن شعور الانسان الحديث هذا. انه يبدأ بالسؤال: من انا ؟ اي برهان لديّ عن ذاتيتي سوى استمرار نفسي الفيزيائية ؟ وليست اجابته مثل اجابة ديكارت - تأكيد النفس الفردية- بل انكارها: ليس لي ذاتيه, ليست هناك نفس سوى التي هي انعكاس لما يتوقع الأخرون مني ان اكون عليه: انني كما ترغب انت.”
“فاذا حدث وتقطعت الروابط الاولية التي تعطي للانسان الامان, واذا حدث ان واجه الفرد العالم الذي خارجه كذاتية منفصلة تماما, فان امامه اتجاهين حيث عليه ان يقهر الحالة التي لا تطاق, حالة العجز والوحدة.يستطيع في اتجاه منهما ان يتقدم الى "الحرية الايجابية", يستطيع ان يتعلق على نحو تلقائي بالعالم في الحب والعمل, في التعبير الاصيل عن القدرات العاطفية والحسية والعقلية, وهكذا يستطيع ان يصبح مرة اخرى متحدا مع الانسان والطبيعة ونفسه دون ان يتنازل عن الاستقلال والتكامل الخاصين بنفسه الفردية.والاتجاه الآخر امامه هو التقهقر والكف عن الحرية ومحاولة قهر وحدته عن طريق استئصال الهوة التي تنشأ بين نفسه الفردية والعالم. وهذا الاتجاه الثاني لا يوجد اطلاقا بالعالم بالطريقة التي كان مرتبطا بها قبل ان يبزغ باعتباره "فردا", لان حقيقة انفصاله لا يمكن قلبها, انها هرب من موقف لا يطاق يجعل الحياة مستحيلة اذا ما استطالت. وهذا الاتجاه للهروب هو لهذا يتميز بطابعه الارغامي مثل كل هرب من الخطر المهدد, كما انه يتميز ايضا بالتنازل التام بشكل او بآخر عن الفردية وتكامل النفس. ومن ثم فهو ليس حلا يفضي الى السعادة والحرية الايجابية, انه من ناحية المبدأ حل يوجد في كل الظواهر العصابية انه يسكن القلق الذي لا يطاق ويجعل الحياة ممكنة بتجنب الخطر, ومع هذا لا يحل المشكلة الواردة ويندفع له الثمن بنوع من الحياة لا يتألف في الأغلب الا من النشاطات الآلية او الاضطرارية.”
“ان ما يميز المجتمع في العصور الوسطى عن المجتمع الحديث هو نقصه من الحرية الفردية. لقد كان كل فرد من الفترة المبكرة مقيدا بدوره في النظام الاجتماعي. لم تكن امام الانسان سوى فرصة واهنة للتحرك اجتماعيا من طبقة الى اخرى, بل لا يكود يكون قادرا على الحركة حتى جغرافيا من مدينة الى اخرى او من بلد الى آخر. وفيما عدا استثناءات قليلة عليه ان يمكث حيث ولد. بل انه كان في الاغلب غير حر في ان يلبس كما يهوى او ان يأكل كما يشاء. وكان على الاسطى ان يبع حسب سعر معين وكان على الفلاح ان يبيع عند مكان معين. وكان محرما على عضو النقابة ان يفشي اية اسرار تقنية خاصة بالانتاج لاي فرد ليس عضوا في نقابته وكان مرغما على ان يدع زملاءه من اعضاء نقابته يشاركونه في اية عملية شراء مفيدة للمادة الخام. لقد هيمنت على الحياة الشخصية والاقتصادية والاجتماعية قواعد والزامات لم يفلت منها من الناحية العملية اي مجال من مجالات النشاط.”