“لما كان تعريف علم السياسة بإنه هو (إدارة الشئون المشتركة بمقتضي الحكمة) يكون بالطبع أول مباحث السياسية وأهمها بحث (الاستبداد)، أي التصرف في الشئون المشتركة بمقتضي الهوي.”
“المستبد لا يستغنى عن أن يستمجد بعض افراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كنموذج البائع الغشاش، على انه لا يستعملهم في شئ من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة او سبحة في يد زنديق . وربما لا يستخدم بعضهم في بعض الشئون تغليطآ لأذهان العامة في أنه لا يتعمد استخدام الأراذل والأسافل فقط ، ولهذا يقال أن دولة الاستبداد دولة بله واوغاد..عبدالرحمن الكواكبي، الاعمال الكاملة..”
“ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيباً من الزكاة فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفّارات فك الرقاب تشمل هذا الرقّ الأكبر.”
“الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنةٌ تحصد النّاس حصدًا؛ نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشّدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًّا، فإذا كان في الأمّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتّى إذا سكنت ثورتها توعًا وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكومة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة.”
“طبائع الاستبداد الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيداة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة, وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة.تواسي فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين الأمة فتقول ((يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تلقيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم والتدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنّا في أوطاننا، واكشف عنّا البلاء، أنت حسبنا ونعم الوكيل.”
“ترتعد فرائص المستبدّ من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسّياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم الّتي تكبِّر النّفوس وتوسّع العقول وتعرِّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطّلب وكيف النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبّر عنهم في القرآن بالصّالحين والمُصلحين في نحو قوله تعالى: (أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون)، وفي قوله: (وما كان ربّك ليُهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون)، وإن كان علماء الاستبداد يفسّرون مادّة الصّلاح والإصلاح بكثرة التّعبّد، كما حوّلوا معنى مادّة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التّشويش على المستبدّين.”
“ الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل , وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجد وترك العمل، وينتج من ذلك أن الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة . بناءً عليه يرى الآباء أن تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بد أن يذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد ”