“الأسود عندما تأتي للشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر, اذ أن للافتراس وقتنا ونذرا, وللحياة العادية وقت ونذر, ويبدو أن الغدر شيمة بشرية محضة!”
“كان الشلال يهدر بعنف, ومياهه تندفع من الحافة العالية لتهوي على صخور البازلت السوداء في باطن المجرى, على عمق مائة متر. ومن هذا السقوط المروع لآلاف الأطنان من المياه على الصخور الكبيرة الصلبة, كانت تتصاعد سحب كثيفة من رذاذ الماء المتكسّر على الصخور. وفي وسط العشب الغزير بالغابة المحيطة بالشلال فزع غزال وديع أزعجته الضوضاء, فقال ببعض الضيق: (ألا يمكنك أن تكون أهدأ أيها الشلال العظيم?), ودون أن يتريث لحظة, واصل الشلال اندفاعه وهديره ساخرا من رقة الغزال: (هه هه هاه... اسكت أيها المخلوق الهش, وامضغ عشبك في هدوء). لم يُخف الغزال ضيقه من عجرفة الشلال, وهمهم بصوت خافت: (حقا... ما دخل العنف في شيء إلا شانه, وما دخل الرفق في شيء إلا زانه). سمعت سلحفاة عجوز قول الغزال, وأحست أن به معنى جميلا, فسألته: (هلاّ شرحت لي مغزى ما قلته أيها الغزال?) وجاوبها الغزال مقربا فمه من رأسها, هامسا حتى لا يثير غضب الشلال الجامح: (إنه يعيرني بأنني هش وآكل العشب.. لكنه لا يدري أنه بعنفه يأكل نفسه). مدت السلحفاة رقبتها مطلة برأسها خارج الصدفة الكبيرة على ظهرها وهتفت غير مصدقة: (يأكل نفسه?!) تمطى الغزال رافعا رأسه مستنشقا عبير الغابة المنعش, وقال باطمئنان الواثق مما يعرف: (أكيد... إنه يأكل نفسه), ودون أن تسأله السلحفاة, بادر الغزال يشرح للسلحفاة: (هذه حقيقة... الشلالات العنيفة تأكل نفسها. فمياه الشلال وهي تسقط من الحافة العالية باندفاع, تنحت الحافة وتحفر فيها مجرى يزداد عمقا باستمرار, وعلى مر الزمن لا تجد المياه حافة عالية تسقط من فوقها على هيئة شلال, بل تسير في المجرى مشكلة نهرا صغيرا في قاع الجرف العميق). اندهشت السلحفاة من حديث الغزال, وأخذت تراقب الشلال كيف يجعله العنف يأكل نفسه, لم تستطع أن تتبين ذلك بوضوح خلال فترة عمرها الذي وصل إلى مائة سنة, لكنها كانت تخبر أبناءها, وهؤلاء يخبرون أبناءهم, لتمر آلاف السنين, ويتأكدون أن الشلال حقا - بعنفه واندفاعه - يأكل نفسه.”
“طاغور السكندريمن أي بهاء تولد أغنياته؟حين رأيته أول مرة أثار ارتباكي. فهو بالنسبة لي عملاق أسمر، يوحي بما يرتبط بالعماليق من عنفوان ومداهمة، ثم إنه صيدلي بالدراسة، مما يوحي أيضا بحدة العقل العلمي وحوافه القاطعة، لكنني ما إن جالسته حتى أحسست برفيف فراشة يَدُفُّ في المكان، وألق ملون يشع قريبا مني، ولم يكن هناك في المكان وبالقرب مني سوى هذا الصيدلي الشاب الأسمر العملاق، القادم من الإسكندرية العذبة، أحمد الديب، الذي تتناقض كنيته أيضا مع حقيقته الإنسانية والروحية والثقافية، مخلوق أبعد ما يكون عن بطش الافتراس، وإن كان شجاعا ونقيا في صدقه، وهو إلى كل ذلك بالغ الرقة، وكيان ثقافي مفعم بالجمال ومشع به، فهل لكل ذلك علاقة بكتابته؟قطعا لذلك كله علاقة بكتابته، طبقا لقناعة أومن بها هي أن "حياة الكاتب هي أفضل تعليق على كتابته، وكتابته هي أفضل تعليق على حياته."، وما حياتنا إلا نتاج تكويننا الماثل في الأعماق، والمُتجلي في تفاعلاتنا مع العالم من حولنا، حياتنا، هذه هي حياتنا. ومخلوق مثل أحمد الديب من المنطقي جدا أن يتجلى بكتابة قوية ورقيقة وجميلة وصادقة حتما، بل استثنائية، فاجأتني بعد أن تعرفت عليها تباعا نَصا من بعد نَص، على مدى شهور طوال، ثم كانت المفاجأة وأنا أعيد قراءتها دفعة واحدة، فقد راحت تعبر بذاتها وبي إلى الامتحان الأهم لأي كتابة، وهي قدرتها على تجديد إدهاش قارئها كلما جدد قراءتها، وقد اندهشت، وأرجح أنني سأظل أندهش كلما عاودت قراءة هذه النصوص. فأي سر فيها؟هذا السؤال أزعجني كثيرا وأنا أعيد قراءة هذه النصوص البديعة لأكتب كلمتين عنها، بل وعطلني طويلا عن هذه الكتابة، فكلما عاودت القراءة أجدني عازفا عن أن أخط كلمة، لسبب وضح لي مع الوقت، هو أنك عندما تصادف الجمال تحب أن تعيشه وتمتزج به، لا أن تحلل مكوناته لتصل إلى سر تركيبه، وهذه نصوص فائقة الجمال كلما عاودت قراءتها تغمرني النشوة، وأخرج من زحام وضوضاء العالم الفظ الذي يُثقلنا، خاصة في الفترة الأخيرة، وأحلق وأدور نشوان في فلك عالم من البهاء والنقاء والرحمة، وهو عالم حقيقي تماما لا اختلاق رومانسي فيه، بل تعقب واقعي لعاشق متسام يكافئه إخلاصه برؤية الحقائق البهية الخافية عن مبتذل العيون، فيما هو يقتفي أثر ما يشغفه من الكون والكائنات. فأي سحر في هذه الكتابة؟سؤال ما كنت أود أن أتحمل وزره، في رحلة قراءة تحملني إلى الذهاب بعيدا وعميقا في الإحساس بالعالم لا مجرد فهمه، وأظن أن الإحساس ينطوي على حدس هو أعلى من كل فهم، ومع ذلك، ومطاوعة أليمة للسائر من أمور المقدمات، دون استسلام كثير لتراثها، سأحاول الإجابة على السؤال دون أن أضيع حقي في الانتشاء بهذه النصوص كلما عاودت قراءتها، وهي مغرية بمعاودة القراءة، لماذا هي مغرية بمعاودة القراءة؟ وجدتني أوجه لنفسي السؤال فلا أسعى للإجابة عنه، بل أذهب بخاطري إلى نصوص أخرى أحب معاودة قراءتها كلما ضاق بي هذا العالم مزدحم الصخب والخشونة والقسوة، وتوالت الأسماء والأصداء والكتب، وإذ بي أتوقف عند طاغور، وبالتحديد أغنياته، فأعاود قراءتها، وإذ بوميض السحر في أغنيات طاغور يضيء لي كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي هي أيضا أغنيات، ليست كأي أغنيات.يقول طاغور في أغنية محورية من أغنياته:"سماء ملأى بالنجوم والشمس وهذي الأرض تنبض بالحياة وبين كل هذا، أنا أيضا لقيت مكاني من هذا البهاء تولد أغنيتي"ظل هذا المقطع "من هذا البهاء تولد أغنيتي" يتردد في أغنية طاغور وتترجع أصداؤه في نفسي، فأُلامس عَبْرَه كُنه السحر في نصوص أحمد الديب القصصية، التي لا تقل أبدا في رقيها وتحليقها وعبقها عن أغنيات طاغور، وتوازي بدقة النثر ونصوعه علو السبك الشعري عند شاعر الهند الكبير، ثم يأتي المشترك الأعظم بين طاغور الهندي، وطاغورنا السكندري، والذي أحدس أن فيه سر السحر. إنه إدراك روح الكون والكائنات.من هذا الانجذاب بالروح إلى روح الكون والكائنات يولد سحر أغنيات طاغور الهندي، وسحر نصوص أحمد الديب، فأحمد الجميل يقدم لنا كل ما يكتب عنه شفيفا فنرى وميض روحه، للون عنده روح، وللفراشة، ولنجمة البحر، ومروق القطار، وابن الحداد، واللافتات، والحجر، وللخطوات، ولليل والفجر، ولكل ما كتب عنه طاغورنا السكندري روح. وأرجح أنه من هذا المدى وصل إلى سر السحر الذي يعيد به تقديم مفردات الوجود المادي لنا. فنكتشف أننا أحياء نحلق في مدارات أفلاك حية، فنحب الحياة، ونحِنُّ إلى الحياة.مرحبا بأحمد الديب، طاغور السكندري، قيثارة إبداع جميل، تحلق مع شدوها أرواحنا، فنستعيد بعضا مما يسرقه هذا العالم من أرواحنا. ونصير أفضل وأكثر استعدادا للأجمل.محمد المخزنجيالقاهرة في 12/12/2012”
“فلتكتف إذن في البداية بالمشاهدة،برؤية لعبهم الغريب هذا، وتأمل شرودهم المرير.شرود وجوه لا عيون في محاجرها، لكنها تعطيك أشد الانطباع بتحديقها في زمن بعيد،زمن كانت لهم فيه عيون وأبصار.”
“فالأفيال تنفخ في الماء "تروقه " قبل أن تأخذ جرعات بخرطومها ,تسكبها في أفواهها بتمهل والشرب لديها حفل كامل ترعاه الفيلة القائدة الأم التي يحييها قبل الشرب كل القطيع والأسود عندما تشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر ,اذ إن للافتراس وقتاً ونذراً وللحياة العادية وقت ونذر ويبدو ان الغدر شيمة بشرية محضة ! ”
“الحضارة هي سمت إنساني حي، يتعلق بروح البشر واختياراتهم المتآخية مع جماعاتهم ومع بيئاتهم، والمسالمة مع الآخرين، وعدم تمييز الذات، والنفور من استغلال الغير أو استعمار بلاد الناس.”
“سأسعى كسعي الناس وأنا موقن أن حظي يفوق حظ الناس.ألم أسمع وأرى؟ بلى سمعت ورأيت، حتى أنني عندما سأغلق عيني برهة وأنا في قلب الزحام والضوضاء والغبار سأعود أرى... وأسمع..."ولست بغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي”
“لأكثر من خمس دقائق مكثنا، أنا والذئب، ينظر كل منا إلى الآخر. بفضول هاديء أواجهه، وهو ينظر نحوي في هدوء. يتململ فيحرك قليلا إحدى قوائمه، أو تسري نبضة خفيفة في ذيله، وأنا أستريح في وقفتي بقربه وأسترخي. أتأمل بصفاء ذلك الصفاء الكهرماني في قزحيتي عينيه، ويأسرني النقاء الخالص لشعر ظهره الداكن وذيله المليء. ويعجبني بافتتان ذلك التناغم القوي في بنائه، حتى أفلت مني الهمس: "ياه.. ذئب جميل.. جميل خالص.."، بل وجهت إليه همسي: "أنت ذئب جميل.. جميل خالص..". ثم إنني ودعته قبل أن أستدير عنه لأهبط: "سلام.. سلام..".”
“البؤس ليس بؤس العيش ..إنه بؤس النفوس أولا وقبل كل شئ ”
“هوِّن عليك، أو لا تهوِّن، فكل جمال في هذا البلد سيذكرك بنقيضه، وكل سلام سيجعلك تحس بالارتجاف. وهذا ليس قصداً، إنما هي آلية الذاكرة، فما تحمله ليس مما يُنسى، وخير ألا ينسى.”
“فالأفيال تنفخ في الماء "تروِّقه" قبل أن تأخذ جرعات بخرطومها، تسكبها في أفواهها بتمهل، والشرب لديها حفل كامل ترعاه الفيلة القائدة الأم التي يحيِّيها قبل الشرب كلُّ القطيع. والأسود عندما تشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر، إذ إن للافتراس وقتاً ونذراً وللحياة العادية وقت ونذر. ويبدو ان الغدر شيمة بشرية محضة !”
“لقد ذهبتُ إلى بيت تشيخوف - وهو الذي يُعتبر أكثر الكُتاب الروس هدوءاً ووداعة - ولاحظتُ شيئا غريبا فاتتني ملاحظته في المرات السابقة: إن مكتبه كان يواجه الحائط! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة بذلك مزيداً من العزلة عن عنف العالم الصعب، وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها لحظات عصيبة.”
“الذي أدريه الآن يقيناً، أن من يصعد إلى هذا المرتقى يوماً، لا يعود كما كان من قبل الارتقاء، ويظل يهفو أبداً إلى هذا الارتقاء، لهذا لم أعد أرى في جنون متسلقي قمم الجبال جنوناً، بل هي رغبة مطلقة في الانعتاق من شقاء العالم الأرضي وملامسة مطلق النقاء الذي لم يمسسه بشر أو لم يلوِّثْه بعد.”
“لقد ذهبتُ إلى المالديف حاملاً السؤال الأصعب على نفوس أهلها الطيبين، فمجرد توجيه السؤال في حد ذاته يشكل ألماً لا حدود له. فإذا كنت تسأل إنساناً: هل ستختفي بلدك تحت سطح البحر بعد عقود قليلة؟ فأنت تغمره بسيل موجع من الصور المريرة كاختفاء بيوت الأهل وشوارع الأحباب وضياع مَن يبقى على قيد الحياة بعد هذه الجائحة المرعبة.”
“إنني أظن أن أفضل ما حصلت عليه في "كابادوكيا" هو إكباري لأعجوبة الإنسان وخلق الإنسان، ومن ثم الشكر والحمد لله العظيم خالق هذا الإنسان. فبقدر قسوة امتحان الإنسان في مواجهة الطبيعة الجبارة والزمان الأكثر جبروتاً من الطبيعة أودع الله في أشرف خلقه سراً عجيباً جعله يواجه وعيه بمصيره المتهافت والزائل بالانخراط في تغيير حياته الممكنة والتسامي بها روحاً ونشداناً للجمال.”
“لقد دققت على فخذي فلم أسمع رنيناً، ودققت على كتفي فلم أسمع رنيناً، ودققت على صدري فأدهشني رنينٌ حقيقيٌ تردده وترجعه الجدران، فعاودت الدق على صدري مغمضاً عيني لأستريح.. أستريح.. وفي عذوبة الراحة أتساءل: يا رب.. الدنيا التي خلقتها غنية وبهية.. فلماذا يشقيها ويشقى فيها البشر؟!”
“تاج محل تحفة، وقصة، وموقف فلسفي وجدت نفسي أتساءل خلاله: ترى ما هو الامتحان الأعمق للحب، أن تصطفي من تحب ليكون إلى جوارك في صخب الحياة؛ أم في سكينة الموت؟”
“ولون آخر داكن يتكون من: حمرة الدم، وسواد شظايا البازلت الذي يقطعه العبيد بدانات المدافع، وبُنِّيِّة صدأ القيود حول الأعناق وفي الأقدام.. وعتمة بطون بيوت العبيد وأجواف السفن التي تعبر بحر الظلمات، وسواد قلوب المجرمين الذين لم يكفوا عن تجارة العبيد حتى الآن، وإن بأشكال أخرى، حداثية، وما بعد حداثية.”
“الوطن العربي لا يعرف ذاته. وفي أحوال كثيرة لا نعرف أنفسنا إلا عن طريق الآخر. وفي رأيي أن أكبر حاجز بين العرب هو خيال بعضهم عن بعض. نحن جميعاً ضحايا المتخيل العربي عن ذواتنا. وكلما التقينا لابد أن نبدأ من الصفر.”
“إذن كان الأفارقة هنا قبل مجيء الأوروبيين بثلاثة ألاف وخمسمائة سنة على الأقل. فلم تكن الأرض بغير ناس، ولا كان الناس بغير أرض كما يزعم الكولنياليون دائماً ليلفِّقوا تبريراً لاستعمارهم الاستيطاني لأرض البشر، وليختلقوا سبباً للمنِّ بأنهم أنشأوا حضارة العالم (الجديد) من العدم.”
“هكذا، لأنني بصراحة أرانا متخمين بالغرب، وهذا الغربُ الذي زرت كثيراً من مدنه، جميلة نعم، متقدمة نعم، متمدينة نعم، لكني لم أشعر في أفضلها بالنسبة لي، كباريس، وميونخ، وكييف، وفيينا؛ إلا بالاغتراب، بشعور أصمٍّ وبارد يكاد يكون حاجزاً بيني وبين ناس هذه المدن الغريبة، شيء كالحاجز الزجاجي الذي يحسه طبيبٌ نفسيٌّ بينه وبين مرضى الفصام، لا أعني بالطبع أن هذا الغرب ساحة للفصام والفصاميين، لكن أقصد هذه الطبيعة غير الدافئة تجاهنا ومعنا، وهي الشيء النقيض لطبيعة الناس في الجنوب والشرق اللَّذَين عشقت ترحالي في أرجائهما.”
“و رغم يقيني بأنه لا يصح إلا الصحيح، و أن الكذب لا يعمر طويلا، إلا أن لحظات غرق هذه الجزيرة الحلم، أو وهم الحلم، قد ورثتني حزنا لاأظنه يقف عند حدود النصوص”
“ولا أجد شعورا يقارب شعوري في ذلك إلا ما أتصوره عن مشاعر "السندباد البحري" في إحدى حكابات ألف ليلة عندما تحطمت سفينته في عرض البحر و سبح إلى جزيرة رائعة تراءت له، و بعد أن عاش هنيئا بين ربوعها بدأت في التحرك و راحت تغرق، إذ كانت مجرد تكوين عارض على ظهر حوت!الاتحاد السوفيتي كان احتمال لجزيرة إنسانية رائعة، لكنها عارضة، على ظهر حوت من أكاذيب الادعاء، و نقائص أيديولوجيا تزعم الاكتمال، و صغائر نفوس قادة صغار لبلد كبير وعريق، عراقة دوستويفسكي وتشيكوف و تورجينيف و بوكشين و تولستوي وجوركي و بولجاكوف”
“كنت أعرف بيقين الحس، أن الاتحاد السوفيتي مرشح للانهيار، و لأسباب أبسط و أوضح من تلك التي ساقها -ولا يزال- المحللون السياسيون ومراكز الدراسات الاستراتجية: لقد انهار الاتحاد السوفيتي لسبب واحد يجمع كل الأسباب، و هو :الكذب!”
“و كان هذا يروق لى، أن أكون أنا الحوشى و أنت صفاء الندي”
“فى مصر فريقان سياسيان لا ثالث لهما مهما تعددت اللافتات والرايات والأقنعة، فريق الديمقراطيين القابلين بمبدأ تداول السلطة، وفريق اللاديمقراطيين الذين يركبون الديمقراطية لتوصلهم إلى سلطة استبداد لا تقبل التداول، وللتفرقة بينهما ابحث عن العنف، وهو لن يكون فى جراب الفريق الأول. أعتقد أن الديمقراطيين أكثر، لكن اللاديمقراطيين أَكْذَب.”
“من الذى قال ذلك عن معنى السعادة ؟ .. إنه هو ذلك المتوحد العائش فى قبو متواضع . المنقطع عن كل طنطنة الدنيا و بريقها ليتواصل مع جوهر روحه و يطلع علينا بالأسفار . صاحب أجل أسفار زماننا و أضخمها . السفر الذى يعلمنا حب النهر و حب الطمى و حب البحر و تفهم الرمال . إنه هو .. أجاب عن سؤال يستكنه معنى السعادة فى مرة نادرة من المرات التى أدلى فيها بحديث . قال :- إن السعادة هى أن أشرب كوب شاى .. مع صديق .. فى لحظة رضا و أنا كنت أحتسى كوب شاى صاف . تطفو على سطحه وريقات نعناع أخضر . مع جميلة كالحلم . فى راحة إيوان ظليل . فهل كنت أطمع فى المزيد ؟ لم اكن أطمع فى المزيد . فقط وددت لو يتوقف بنا الزمان على نحو ما . و لأن ذلك مستحيل فقد سألتها " أنلتقى هنا غداً ؟ " . و أجابتنى باسمة " لم لا ؟ " . فردَّدت روحى صدى الإجابة :- لم لا ؟”
“أنظر فى عينيه مباشرة بإحساس يتصاعد بالشفقة إلى حد الابتسام , فيبادلنى الابتسام الشفوق , و ما يلبث ابتسامنا المتبادل حتى يأخذ شكل برهة من الرضا , هذا الرضا الذى يسرُّ أن :- مع ذلك , ورغم ذلك , يظل وجودنا فى هذه الحياة على تكاثر آلامها و تضاؤل و ابتعاد أصغر الأمانى فيها .. يظل جديراً ببعض الفرح .. على الأقل فرح التنفس من هواء الصبح الطازج كل يوم جديد .. أليس كذلك ؟أليس كذلك ؟ أسأله بإيماءة مبتسمة فيجيب علىَّ مبتسماً بمثلها , ثم أكرر سؤالى بصوت مسموع و أنا أستدير متأهباً للخروج , لكن إجابته لا تأتينى . فيبدو لى وكأنه تبخر مع سريان تيار الهواء الصباحى الذى اكتسح الغرفة آتياً من النافذة المفتوحة إلى الباب المفتوح .و أفكر فى أنه اختفى أيضاً من صفحة المرآة التى استدرت للتو عنها”
“كيف اقع ؟ يالها من فكرة اتحمس لها . واتعلم بالفعل كيف اقع . مرة ورة ومرة . واذا بي لا اخاف من الانطلاق . انطلق مشوارا لا بأس به , لكنني في النهاية اقع الوقوع الذي لا اخافه حتي انني امكث ضاحكا حيث وقعت”
“قالت لي إيرينا: "محمد .. قل شيئاً".قلت: " ليس لديَّ ما أقوله".قالت: "لا أريد كلاماً .. أريد صوتك".فسحبت من الرف القريب مختارات من شعر بلوك وأيسينين وبوشكين، بلغتها ولغتهم، ورحت أقرأ. لكنها سحبت من يدي الكتاب سريعاً، ونحَّته وهي تقول: " اللكنة تفسد الشعر".وعادت تقول: "أريد صوتك".فأغمضت عيني ورحت أقرأ ما يطيب لي قراءته عندما أكون وحيداً .. شيئاً من سورة الرحمن، وقصيدة للسياب، وأخرى لدرويش، ومقتطفات من الطيب صالح، والنفري.وعندما فتحت عيني وجدتها تغفو على صدري كطفل آمن، فسألتها في خفوت: " نمتٍ؟".فتحت عينيها الطازجتين مندهشة وهي تقول: "لا لا. أبداً .. لما توقفت؟".ولم أكن أحب أن أتوقف، ليس لأجلها فقط، ولكن بالأكثر .. لأجل روحي.”
“هناك صنفين من الناس، أحدهما مدفوع بحب الحق والخير والجمال، فهو مُلاقيها حيثما تكون فى دين أو دنيا، والآخر مدفوع بنازع الباطل والشر والقبح، وهو واجدها حيثما طلبها، لأنه فى الأخير يعبر عن جنوح نفسه، لا واقعية الدينا، ولا سمو الآخرة.”
“و هناك؟! حيث تكاد الشمس لا تغيب و الجليد لا يكون , ما الذى يجعلنا عرضة لارتعاد لا ينقطع ؟ لا ينقطع ! ... أتذكر سقف بيتنا الذى يبدأ فى التساقط و الرشح المذل مع حلول الشتاء . أتذكر وهن أبى و مشيته المرتجفة فوق البلاط البارد . أتذكر حيلة أمى الكسيرة و هى تستعين بلفائف خرق الملابس القديمة تحميها من شر الشتاء .أتذكر يدى نورا الصغيرة الجميلة و أقدامها المزرقة ابتراداً فى الشتاء , أتذكر صقيع زنزانات سجن تجربة المرج و معتقل القلعة و تأديب القناطر , وأستعيد فى عمق عظامى برد الشوارع و البيوت . تطيش فى أفق ذاكرتى صورة لسرب طائرات خاصة تزف ابنة بليونير من الثغر إلى القاهرة . و أوقن إلى أننا فى حاجة إلى أكثر من مجرد شمس فى الأعالى .”
“ليقول شيئا مهما أستنتجه بالمقارنة، وهو، أن هناك صنفين من الناس، أحدهما مدفوع بحب الحق والخير والجمال، فهو مُلاقيها حيثما تكون فى دين أو دنيا، والآخر مدفوع بنازع الباطل والشر والقبح، وهو واجدها حيثما طلبها، لأنه فى الأخير يعبر عن جنوح نفسه، لا واقعية الدينا، ولا سمو الآخرة.فقد مررت فى ترحالى بمسلمين كثر خارج عالمنا العربى، فى أفريقيا وآسيا وأوربا، واكتشفت وتيقنت أن الإسلام انتشر فى تلك البقاع القاصية بالأسوة الحسنة، عندما اكتشف سكان هذه البلدان أمانة ونظافة وصدق وود وتسامح التجار المسلمين الذين وصلوا بسعيهم الشريف إلى هناك. أما ما يمكن أن أقوله الآن فى زعم البعض أن الإسلام ينتشر بسبب دعاة التشدد والعنف والعدوانية، فهذه فرية حقيقتها أن التعصب لا يجتذب إلا المتعصبين، وهى مسألة نفسية لا إيمانية لا أحب أن أتوقف عندها فى هذا الموقع من الاحتفاء بكتاب نبيل لمخلوق جميل.”
“ كنت أحس بأن يد الله قد ألقت بى فى تجربة فى لحظة من لحظات تاريخ الرعب البشرى . لحظة أول رعب نووى بلا حرب تعيشه الإنسانية .و إنى لمؤتمن على هذه اللحظة - ككاتب - فى حدود طاقتى و المتاح لى ( لكونى أجنبياً ) , و من ثم رحت أتعرض لما لا يعلمه إلا الله و السلطات العليا السوفيتية من جرعات إشعاعية . لم أستطع البقاء فى غرفة مغلقة النوافذ حين كان الربيع الشهير فى كل الدنيا - " ربيع كييف " - يزدهر بتوحش .. يتأجج بخضرة كثيفة و زهور و طيور و ثمار شتى تحت مظلة من الرعب النووى المحقق . الرعب اللامرئى الذى كنت فى أعماق قلبى لا أخشاه , ربما لأننى لم أكن أحسه , و أكثر .. لأننى أوقن فى قرارة نفسى أننى ابن موت . واحد من بشر قصار العمر يحيون فى العالم الثالث المكروب , فى الجنوب المتهالك , حيث القاعدة هى الشقاء و الموت المبكر , أما الاستثناء فأن يسعد الناس و يعمرون .”
“معك يا " ناتاليا سيرجيفنا " يأخذ الحديث اتجاهاً آخر , يصير رحباً رحابة التناجى ما بين كائن إنسانى - بالمعنى الشاسع للكلمة - و كائن إنسانى مثله . يختفى ضيق المساحة التى لا تسع إلا رجلاً و إمرأة عندما تتدفق بيننا الأفكار .آه يا ناتاشا ( اسم التدليل من ناتاليا ) عندما تفاجئيننى ببكائك و أنتِ المرحة أبداً .آه يا ناتاليا من هذا الاقتراب المواسى الذى يضيّق المسافة بيننا .آه يا " ناتاليا سيرجيفنا " من هذا الصمت الذى يتجسد لنا فيه وجود الشعاع , فكأنه يدوم , ليصيبنا بالدوار !”
“قبل أن أطلع على مفهوم «ما بعد العلمانية» الذى كرّسه الفيلسوف الألمانى بورجن هابرماس منذ سنوات قليلة ورفض فيه فرضية أن التحديث يتلازم مع العلمانية ويقود بالتالى إلى تهميش دور الدين، وأنا مشغول بقضية «الإيمان» حتى وأنا يسارى، وترسخت القضية عندى مع غوصى فى بحار الثقافة العلمية، فكانت عجائب الخلق وبصمة خلقتها المتكررة تلفت انتباهى فى كل الموجودات والوجودات بشكل مبهر، وكأنها أكوان داخل أكوان تنطق بوحدانية الخالق. ورأيت أن مجرد التأمل فى هذا الطيف الهائل بما يكتنفه من معجزات ومدهشات وعجائب، كفيل بطرح حتمية الإيمان لا كإشراق فقط، ولكن كملاذ من مخاوف العدمية والضياع والعبث التى تضغط على الإنسان المعاصر.”
“إن السعادة هي أن أشرب كوب شاي.. مع صديق.. في لحظة رضا.”
“قد يكون حلماً فظيعاً له قوة حضور الواقع, أو وقعاً غريباً كالحلم, هذا ما لم أحسمه, و لعلي لن أحسمه أبداً, لهذا أحاول تحسس حكايتي هذه من جديد, لعلي أتبين فيها حدوداً فاصله”
“استحالت الغزلان الى عظام بيضاء مسودة , ترقطها بقع شحيحة من بقايا اللحم المشوى , و بعد الامتلاء نعس كثير من المارينز فى اماكنهم , و لم يوات النوم البعض فحملوا العظام الى اقفاص الاسود , جاهلين ان الاسود تعاف اللحم المشوى , فهل تلعق الاسود رماد العظام ؟!”
“أراد المهر ان يكون فى ظل امه ,فأسرع فى عدوه ,و عندما حاذاها وجدها مشدودة العنق , بالحبل المطوق الذى يشدها الى عربة نصف النقل المسرعة .”
“صمت غريب ساد جنبات الحديقة و استجابت له الكلاب الكثيرة التى كانت تتوقف مصغية اسماعها التى تلتقط مالا تستطيع اذان البشر التقاطه , تنتصب اذانها و تنسدل , و تلوى رؤوسها لترهف زوايا الالتقاط , تبدوا متحيرة و هى لا تستطيع ان تميز ان كانت هذه الدمدمة المكتومة الصادرة من جوف الارض هى اصوات مصفدين فى سجون مدفونة فى الاعماق , ام ترجيع مكتوم لصوت جنازير المدرعات الغازية , التى راحت تهرس الاسفلت و بقايا النخيل المقصوف المحترق , و عظام القتلى و الجرحى المبعثرين فى الشوارع .”
“الغربة ببساطة تجعلك شيئاً مسطحاً،أوناتئاً ومحجوزاً بسور عالي من الدلالاتالعميقة للغة، وإرث تقاليد المكان وأعرافه، وخبراته الحياتية ومشاعره.”
“لقد أنهيتُ اللقاءات، ورحت مع زميلي نستجم قليلا على حافة إحدى الغابات المحيطة بشاطيء بحيرة صغيرة في جنوب (تيرانا) يسمونها "البحيرة الساحرة". وهي ساحرة حقا. مرآة كبيرة عذبة من الماء الرقراق الهاديء، تنعكس على صفحتها الغابة الخضراء، والجبال البنفسجية، والمقاهي الصغيرة المتناثرة على أطرافها. ثمة غناء لم أستطع تحديد مصدره، يوناني النغمات، شرقي الشجى، كان يبلغ مسامعنا مع شدو طائر هنا، وخفقة ماء إثر جذب صياد عجوز لخيط صنارته هناك. سكينة وصفاء بالغان تنتعش فيهما الروح. وأفكر في (ألبانيا) فأحس بها كيانا صغيرا بديعا هشا يستأهل الرأفة والرفق.”
“إن عوام الناس عندما يجرمون قد يفلتون بجرائمهم في الدنيا ليحاسبوا عنها في الآخرة. أما قادة الشعوب عندما يجرمون - ولنتذكر مصائر نيرون وهتلر وموسوليني وسوموزا وغيرهم - فإنهم - وحساب الآخرة يترصدهم - لا يفلتون بجرائمهم في الدنيا أبدا سواء وهم أحياء أو بعد موتهم. وأقل وأمرّ صنوف العقاب هي اللعنة.. والمسخرة!”
“وأقسى درجات الثأر هي المسخرة!”
“بوشكين مات مقتولا، ودستويفسكي حالت بينه وبين الإعدام لحظة، وتولستوي قضى نحبه كحفنة من عظام على رصيف محطة مهجورة بعد أن زهد زخرف العالم، وتشيخوف نهش الدرن رئتيه، وليرمنتوف ضاع في مبارزة، وجوركي أطلق على نفسه الرصاص في شبابه ليوقف تدمير البؤساء لأنفسهم. أي عنف واجهه صناع الجمال هؤلاء أو وقعوا في براثنه؟! لقد ذهبتُ إلى بيت تشيخوف - وهو الذي يُعتبر أكثر الكُتاب الروس هدوءا ووداعة - ولاحظتُ شيئا غريبا فاتني ملاحظته في المرات السابقة: إن مكتبه كان يواجه الحائط! وبالتقصي عرفت أنه كان يكتب على ضوء الشموع في مواجهة الحائط، ولعله كان يوفر لروحه المبدعة بذلك مزيدا من العزلة عن عنف العالم الصعب، وهو الذي قال: إنني لم أعرف إلا أن كل لحظات البشرية ظلت ينطبق عليها الوصف إنها لحظات عصيبة.”
“وها هي قمة إفرست نحوم حولها ونصعد رويدا رويدا، إننا نرتقيها ونتعلق، نحدق مذهولين. تشبه هرما رماديا سرمديا موشى بالثلوج بين القمم الناصعة. أُمعِن. ثمة هالات من النور تحيط شفيفة خفيفة بقمة الهرم. أتراه وهم روحي، أم زيغ بصري، أم ارتداد ضوء الشمس عن مرايا أصفى ثلوج الأرض؟ لا أدري، ولن أدري. الذي أدريه يقينا أن مَن يصعد إلى هذا المرتقى يوما، لا يعود كما كان قبل الارتقاء، ويظل يهفو أبدا إلى هذا الارتقاء، لهذا لم أعد أرى في جنون متسلقي قمم الجبال جنونا، بل هي رغبة مطلقة في الانعتاق من شقاء العالم الأرضي، وملامسة مطلق النقاء الذي لم يمسسه البشر أو لم يلوثوه بعد.”
“اكتشفت ببؤس أننى -مثل كثيرين جدا- لم أعد أنتظر أى شئ جميل يحدث, لم يعد هناك ما يفرح أو يعد بالفرح. اكتشفت أن وجودى فى الحياة هو لمجرد الاستمرار فيها.. وأننى أعيش فقط بجسارة من صار يحتقر الانتحار !”
“شعرتُ بقشعريرة وحمدت الله الذي أحمده كثيرا على نعمة الإسلام، فالعودة إلى باطن الأرض هي عودة إلى الرحم الحنون الذي منحنا إياه رب العالمين، فالأرض شريط رحمة حقيقي، منها نشأنا وإليها نعود، لتستمر دورة الأخذ والعطاء، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أرى أن الوطن ليس هو المكان الذي نشأنا فيه ونشأ أحبابنا، فقط، بل هو بشكل أعمق وأوثق المكان الذي لنا في ثَراه أحباب راحلون.”
“عند نقطة البداية، في اليوم الأخير من أيام استطلاعنا، توقفتُ حائرا، ورائي بوابة الهند وأمامي فندق تاج محل. وأظن أنها الحيرة التي تنتاب كل من يريد الكتابة عن الهند أو جزء منها، أو حتى جزء من الجزء. فمشكلة الكتابة عن الهند تكمن في غناها الفاحش بما يُدهش ويكون جديرا بالكتابة، فكل خطوة في الهند عالم من المُدهشات، وكل لحظة أعجوبة، والرغبة في الكتابة عن كل شيء يمكن أن تجعلك لا تكتب شيئا.”